النغمة المنتشرة حديثاً في أوساط المؤمنين، بخصوص الصوم، أنّه ليس واجباً أو فرضاً.
وتالياً يمكن للمؤمن أن يهمله أو يمارسه وقتما يشاء وكيفما يشاء.
بدءاً نقول إنّ الصّوم فضيلة ضرورية ولازمة. وإذا كانت وصايا الربّ في إنجيله المقدّس ملزِمة، فالصّوم لازم ومُلزِم.
فالربّ بذاته طلب منّا الصّوم، “هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصّوم”(مت17/20؛ مر9/29)، “ومتى صمتم فلا…”(مت6/19)، “وبعدما صاموا وصلوا وضعوا …”(أع13/3).
والمثال الأوضح عند المؤمنين هو ممارسة السيد المسيح للصّوم. “صام أربعين يوماً”.
فإذا كان هو الذي دون خطيئة قد صام، فكم بالأولى نحن البشر! خاصّة وإنّنا نعلم أنّه تجسّد وعاش بيننا، ليعطينا طرق الخلاص اللازمة لنا، من خلال الاقتداء بما فعل.
يأتي التزام المؤمن بتعليم الكنيسة وأحكامها من إخلاصه لعضويته فيها، وتالياً لتحقيق هدفه المسيحي، بالمعيّة مع إخوته في عائلته الكنسيّة.. أمّا الانتقاء القائم على المزاج والخيار الشخصيين، فهو مصدر للتهاون، الذي يمنع التحرّر من الرباطات الأرضيّة، لأنه مرتبط بالمزاج الذي تتحكم الأهواء فيه، فيغدو الإنسان عاجزاً عن السمّو بحياته نحو غايتها الأساسيّة. كما هو سبيل إلى الانقطاع عن شركة الجماعة الواحدة.
اختبرت الكنيسة، جسد المسيح الحيّ، على مدى التاريخ، أهميّة الصّوم. وقد وضعت شكله ونظامه ونوعه ومدّته، بحسب خبرة التقديس التي رافقتها بحضور الروح القدس، الفاعل فيها عبر الزمن.
يقودنا الكلام هنا إلى مكانة الصّوم وموقعه في مسيرة الخلاص الفردية والجماعية.
في المفهوم الأرثوذكسي، ليس الصّوم هدفاً بحدّ ذاته، وكذلك الصلاة وسائر الفضائل، بل وسائل، لا بدّ منها، للوصول إلى الغاية الأساسيّة والعظمى، ألا وهي الاتحاد بالله والعيش بقربه. أو ما يدعوه القدّيس سيرافيم ساروفسكي “اقتناء الروح القدس”.
يقول القديس سيرافيم بهذا الخصوص: “إنّ اقتناء روح الله هو الهدف الحقيقي للحياة المسيحية وما الصلاة والصوم والسهر والصدقة وغيرها من الأعمال الصالحة المكملة لمحبة المسيح غير وسائل”.
ولأنّ الصوم وسيلة للغاية الأسمى، فهو قابل لأن يكون مرناً من حيث التطبيق. وتشترط الكنيسة إرشاد الأب الروحي شخصياً، في هذا المجال، حرصاً على حماية المؤمن من التهاون والتراخي، الرذيلتين اللتين يقع الإنسان فيهما بسهولة فائقة، خاصّة في زماننا.
عندما تدعو أصدقاءك لا تقيم لهم مائدة، على مستوى المرضى، بل على مستوى الأصحاء.
تقيم مائدة غنية بأصناف المأكولات المتنوعة. فيختار كلٌّ من المدعوين ما يناسب صحّته منها.
هكذا الصّوم، كما وضعته الكنيسة، مطلوب من كلّ مؤمن. ومن كانت صحّته أو ظرفه أو وضعه لا تسمح له بالصوم كما حدّدته الكنيسة، يطلب إرشاد الأب الروحي بما يفيده شخصياً.
ويلتزم به، إرشاداً خاصّاً به حصراً، وليس للنشر والتعميم، ريثما يصل إلى الوضع الذي يستطيع فيه ممارسته كاملا.
للنسك في الكنيسة الأرثوذكسية غاية واحدة، لا غنى عنها، ألا وهي التحرّر. لذلك ليس الصّوم امتناعاً عن الطعام ازدراءً به، أو تعذيباً للجسد، أو إماتة لحسّ التذوق. إنّه تدريب عملي، للنفس والجسد، على التحرّر من أيّ رباط يمكن أن يشدّنا إلى الأسفل.
لعلّ كلمات الأب ألكسندر إلشانينوف (+1935) التالية خير توضيح لفائدة الصوم العملية. يقول: “يزعزع الصّوم الرفاهية الفيزيولوجية ويصدّعها، لكي يصبح الإنسان قابلاً للتأثر بالعالم الروحي، والتشرّب منه بسهولة أكثر”.
أمّا المرونة في عيش الصّوم، في الكنيسة الأرثوذكسية، فإليك بعض وجوه منها:
• تقول القاعدة الصّيامية العامّة: أنّ الصّوم يزداد تقشّفاً كلّما كان العيد أكثر أهميّة. لذلك يُدعى صوم الفصح بالكبير، ويتمّ فيه الانقطاع عن الطعام والشراب حتّى الظهر، بالإضافة إلى الإمساك عن النتاج الحيواني طيلة الصوم. بينما يبقى صوم الميلاد على الإمساك وليس فيه انقطاع.
• نمسك في الصوم الكبير عن السمك، بينما لا نمسك عنه في صوم الميلاد، إلا في الأسبوعين اللذين يسبقا العيد.
• في بلادنا المشرقية حيث تتوفر الخضروات، حتّى في الشتاء، نمسك عن السمك في الصّوم الكبير، بينما يُسمح بأكله في البلاد الشمالية الباردة كروسيا والبلاد الإسكندينافية. وعندنا يُسمح بأكل الرخويات البحرية (الحبّر، الأخطبوط…) في البلدان الساحلية لتوفرها ورخص ثمنها في الماضي.
• كما يُسمح بتناول السمك في الأعياد السيّدية كالبشارة والشعانين، وكلاهما يقع ضمن الصّوم الكبير. الذين يمسكون عن الزيت، يسمح لهم بتناوله، وكذلك الخمر، يومي السبت والأحد من أسابيع الصّوم وكذلك في أعياد القدّيسين المحليّين الكبار (راجع كتاب السواعي الكبير).
يدلّ وجود هذه الأحكام في أنظمة الصوم على أنّه وسيلة للتمتّع بفرح التحرّر من كلّ شهوة تسود على الإنسان من جهة، وفرح تناول الخيرات الأرضيّة بشكر وامتنان من جهة ثانية. ومن يقرأ صلوات خِدَم أيام الصّوم من كتاب التريودي يدرك كم تتكرر فيها كلمات البهجة والفرح والسرور الروحية.
لندخل الصّوم بهذه الروح فيصير تسامياً حقيقياً، وليس حمية غذائية.
سابا إسبر (متروبوليت بصرى حوران وجبل العرب)
اضف رد