قبل التطور الشديد لمحطات السكك الحديدية، كان هناك جسر متحرك فوق نهر كبير.
وفي معظم ساعات اليوم يكون هذا الجسر مفتوحًا فى وضع يكون فيه الجزء المتحرك بطوله مُوازٍ لشاطئ النهر، ليسمح بمرور السفن، ولكن فى بعض الأوقات من اليوم، كانت هناك قطارات تعبر النهر من شاطئ إلى الآخر،حيث كان يدار الجزء المتحرك من الجسر، بحيث يكون عموديا على النهر مما يسمح بمرور القطارات في سلام.
كان هناك رجل يعمل في هيئة السكك الحديدية كعامل “تحويلة” أو “محولجي”، وهو يقوم بعمليات فتح وغلق هذا الجسر عند اللزوم، وكان هذا الرجل يقيم في بيت صغير مع أسرته بجوار شاطيء النهر.
وفي أحد الأيام عند الغروب كان الرجل يترقب قدوم آخر قطار لهذا اليوم، وعندما سمع الرجل صوت القطار من على بُعد، بدأ يستعد ليغلق الجسر ليكون عموديًا على النهر حتي يعبر القطار بسلام للجانب الآخر من النهر، واقترب القطار وهو يزمجر ويصفِّر بصوته العالي المرتفع، وبينما الرجل يستعد ليغلق الجسر رأى ما لم يكن يريده ولا يتوقعه، ولم يفكر فيه من قبل، رأى “ديفيد”، نعم .. “ديفيد” ابنه الوحيد الذي لم يتجاوز بعد السابعة من عمره، يلعب بين متاريس الجسر الهائلة، وعندها تجمد الدم في عروق هذا الأب، الذي بدأ بأعلى صوته ينادي على ابنه:
– «ديفيد .. ديفيد»
لكن صوت القطار جعل من المستحيل على “ديفيد” سماع النداء، وكان الوقت أقل بكثير من أن يذهب الرجل ويُخرج ابنه من هذه المنطقة وإلا سيغرق القطار الذي كان مملوًّا بالآلاف من الركاب، سيغرق في أعماق النهر .. آه .. كان على هذا الأب في لحظة من الزمان أن يختار إما أن ينقذ ابنه ولا يغلق الجسر، ولكن سيغرق القطار بالركاب في أعماق النهر؛ وإما أن يضحي بأبنه ويعبر القطار بسلام. وعندها اختار هذا الأب العجيب في تضحيته، اختار أن ينجي القطار، نادي بأعلى صوته وهو يرتعش:
– «ديفيد .. ديفيد، لا أستطيع إلا أن أضحي بك لأجل الآلاف من الركاب! ديفيد .. ديفيد .. يا وحيدي، آه يا إبني الحبيب»
أغلق الرجل الجسر وهو يغلق عينيه للحظات حتى لا يرى ما سيحدث “لديفيد” وحيده، محاولا التحكم في عواطفه أيضًا. وعندما فتح عينيه ورأى القطار يعبر بسلام، نظر إلى أسفل الجسر، إلى الأشلاء الباقية من جسد “ديفيد” ابنه الوحيد، فلذة كبده الذي تمزق جسده تمامًا بين متاريس الجسر!
عبر القطار بسلام، ولحظتها لم يعرف أحد من الركاب أن هذا الأب ضحى بابنه الوحيد لينجيه، لم يدركوا أيضًا صورة الرجل التى يُرثى لها وهو ينتحب بقوة لفترة طويلة بعد عبور القطار. لم يروه وهو يذهب ليلملم أشلاء جثة “ديفيد” هو وبعض القرويين القريبين من المكان استعدادًا للدفن. لم يروه وهو يعود ماشيًا فى انكسار ببطء إلى بيته، ليخبر زوجته كيف مات ابنهما الوحيد بهذه الطريقة الوحشية.
خرجت الجرائد في اليوم التالي تحكي قصة التضحية النبيلة لهذا العامل، وكانت أغلب العناوين تقول: الأب الذي لم يشفق على ابنه لينجي الآخرين.
عزيزي القارىء .. عزيزتي القارئة، من المؤكد أنك تأثرت بهذه القصة الحقيقة.
ولكن هناك قصة حقيقية أعمق وأكثر تأثيرًا! فلقد ضحى الأب “بديفيد” لأجل ركاب قطار. ضحى به وأخذ القرار في لحظات. ضحى به مع ملاحظة أن الأب كان مسئولاً عن مراعاة أن لا يكون ابنه في هذه المنطقة الخطرة. ولكني دعني أُذَكِّرك بالقصة الأعمق والأشمل:
إنها قصة محبة الآب السماوي العجيب وتضحيته لا لأجل قطار بل لأجل العالم أجمع كما قال المسيح:
{لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ الله الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ الله ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ} (يوحنا3: 16).
إن قصة تضحية الآب السماوي لأجل العالم ليست وليدة صدفة أو حدث عابر، لكنها كانت في قلب الله قبل الأزمنة في الأزل، كما هو مكتوب:
{لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ لِيَكُونَ هُوَ بِكْرًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ. وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ فَهَؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضًا. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ فَهَؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضًا. والَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهَؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضًا. فَمَاذَا نَقُولُ لِهَذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا فَمَنْ عَلَيْنَا! اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟!} (رومية8: 29-32).
لقد تعين قبل الأزمنة في الأزل أن يموت المسيح لأجلنا:
{افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ … بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، مَعْرُوفًا سَابِقًا قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ} (1بطرس1: 18)
{لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ. بِهَذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ. فِي هَذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا} (1يوحنا4: 8-10)
عندما نقترب إلى الصليب نفهم كيف أن الله محبة، وما قاله الرب يسوع:
{وَلَسْتُ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا أَسْأَلُ الآبَ مِنْ أَجْلِكُمْ لأَنَّ الآبَ نَفْسَهُ يُحِبُّكُمْ} (يوحنا16: 26)
وإن سمعتك تسألني: «لماذا يحبني؟» يجيبك الرب:
{أَنَا .ْ. أُحِبُّهُمْ فَضْلاً} (هوشع14: 4).
يحبني ليس لشيء فيَّ، بل بالرغم من كل ما أنا فيه يحبني، لا لأني أستحق، بل لأنه هو {اللهَ مَحَبَّةٌ}.
إن الأب السماوي ينتظرك، فهل تعود إليه كهذا الابن الذي كان ضالاً، فتتمتع بما قاله الرب يسوع: {فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيدًا رَآهُ أَبُوهُ فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ} (لوقا15: 20)
اضف رد